القاهرة - فلسطين الإعلامية - نشرت مجلة الاذاعة والتلفزيون المصرية رواية ضابط المخابرات والسفير الأسبق فخري عثمان عملية القبض على هبة سليم احد اخطر عملاء الموساد في باريس . قال: 'وتوليت أنا مهمة الاتصال بهبة سليم في باريس وكان عليّ أن أخوض أصعب معركة مخابراتية لأنني كنت أدرك أنني أواجه واحدا من أعتى أجهزة المخابرات في العالم، وان كل اتصالاتي بعميلتهم مرصودة، وان هناك مائة أذن تسمع وتحلل وتسجل، وأن عليّ أن أسير على حبل مشدود كلاعبي السيرك لأن أي خطأ سينتهي بكارثة.. ولذلك كنت حريصا على ألا تكون هناك أي نسبة للخطأ أو الفشل.
وبدأت الاتصال بالهدف، ورحبت بي هبة في لهفة وحرارة، وأخذت في إلهاب عاطفتها وأخبرتها بمرض والدها الشديد، ورحت أبتزها عاطفيا وأمارس عليها ضغوطا إنسانية هائلة وطلبت من رفاقي ان يتركوني أثناء الاتصال بها بمفردنا حتى لا يربكوني بإشاراتهم وملاحظاتهم وطلباتهم وحتى يكون الحوار تلقائيا خاصة ان مساحة علاقتنا الإنسانية والود القديم يسمح لي بأن أقسو عليها الى حدود الشتيمة أو أن أدللها غاية الدلال.. وشعرت بأنها بلعت الطعم، وانها صدقت مسألة مرض والدها الخطير وضرورة حضورها الى ليبيا فورا للإطمئنان عليه بناء على طلبه، وشعرت كذلك بان هناك من كان يسمع ويراقب وينصح ويهدد، وكانت هي واقعة تحت ضغط عصبي رهيب، بين عاطفتها الإنسانية وحذرها كعميلة للموساد. وحاولت أو قل ان هناك من نصحها بجس النبض حتى لا يكون الأمر مجرد كمين لاصطيادها فأعطتني موعدا للحضور ولكنها لم تجئ وعادت لتعتذر بظروف قهرية..
وفي مرة أخرى طلبت ان ارسل لها شقيقها الى باريس وكان هذا الشقيق مرافقا لوالده في ليبيا ويدرس الهندسة في إحدى جامعاتها وليس لديه أي علم بما يحدث في الكواليس.. وتحججت بأن شقيقها لديه امتحانات نهاية العام وانه يحتاج لكل دقيقة للمذاكرة وأنها ستضر بمستقبله إذا أجبرته على السفر إليها.. ثم توصلنا الى حل وسط وهو ان أحضره الى مكتبي في السفارة في توقيت اتفقنا عليه وان تتصل هي به تليفونيا لتسأله عن أحوال والدها وطبيعة مرضه.. وفي الموعد المحدد أصدرت أوامري بشغل كل هواتف السفارة وراحت هي تتصل بلا طائل وانتظرت ساعة ثم اتصلت أنا بها مؤنبا ومعاتبا وغاضبا: ضيعتي وقتي ووقت أخوكي وعطلتينا على الفاضي.. قاعدين ننتظر تليفونك طول النهار.. والولد زعل ومشي وقعدت أتصل بيكي لكن تليفونك مشغول.. واضح ان قلبك بقى جامد يا هبة ومش مقدرة خطورة الحالة.. إنتي حرة بس أبوكي عمره ماهيسامحك لو جرى له حاجة.. اتحرقي بقى!
وكلمتها بعنف، وعرفت فيما بعد ان الموساد كان رافضا لسفرها وانهم ارسلوا الى ليبيا من يجري تحريات حول والدها ومرضه ليتأكدوا من الأمر، وعادت هي تتصل بي طالبة ان أساعدها في نقل والدها للعلاج في باريس حيث الإمكانيات أكبر والأطباء أشطر. ووعدتها ان أعرض الأمر على الأطباء المعالجين له في ليبيا وهم الذين يقررون خطورة السفر من عدمه، وتشاورت مع الزملاء وأخبرتها بان الأطباء سمحوا لوالدها بالسفر على ان يكون في سيارة طبية مجهزة وان تكون هناك سيارة إسعاف تنتظره في مطار باريس ومع ذلك فإن هناك نسبة خطورة عليها ان تتحمل هي مسؤوليتها، ولم ادعها تشك في أي شيء لأن رفضي السريع لفكرتها سيجعلها تتشكك في الأمر، وقبل الموعد المحدد للسفر اتصلت وقالت: لا ماتبعتهوش.. خليه عندك وانا هسافرله!
كنت متشككا في كلامها وفي لحظة شعرت بأنها تناور وأنها لن تجيء وقلت لنفسي: أي مشاعر إنسانية تتبقى في قلب باع وطنه وأهله فإذا كانت قد باعت نفسها فهل ما زالت لديها بقية من عاطفة تجعلها تغامر للاطمئنان على والدها؟!
لكني لم أفقد الأمل وظل خط الاتصال مفتوحا لأكثر من عشرة أيام بين شد وجذب وأمل ويأس ومناورات لا تنتهي.. كنت أعرف أنني في مباراة ذكاء مع الموساد وليس مع هبة سليم وحدها.
ويبدو ان العاطفة تغلبت في النهاية فاتصلت بي تخبرني بأنها قد حجزت على الرحلة القادمة للخطوط الجوية الإيطالية وستصل طرابلس في موعد حددته لي، وطلبت ان انتظرها في المطار وكان علينا ان نرتب الأمور بسرعة في انتظارها. ذلك ان السلطات الليبية لم تكن تعلم شيئا عن العملية. وكنا حريصين على إحاطتها بكامل السرية، لكن كانت المشكلة ان دخول هبة الى مطار طرابلس الدولي، كان يعني انها ستكون في حماية السلطات الليبية، وكنا نريد ان نأخذها بمجرد وصولها أرض المطار وننقلها من صالة كبار الزوار الى طائرة مصر للطيران الجاهزة للإقلاع دون حس ولا خبر ولا أي شوشرة.
وهنا يأتي دور مهم وخطير لعبه رجل وطني عظيم اسمه محمد البحيري المدير الإقليمي لمصر للطيران في ليبيا وقتها كان أشبه برجل المستحيل كل ما تم إبلاغه به ان هناك شخصية مهمة ستصل مطار طرابلس ونريد نقلها في كتمان كامل الى القاهرة لأن مصر كلها في انتظارها.
وصول الصيد الثمين الى مطار ليبيا
وفي سرية جرى تخفيف الإضاءة في أرض المطار، والحد من حركة الأتوبيسات التي تنقل الحقائب والمسافرين، ووضع ستائر كثيفة تمنع الرؤية في صالة كبار الزوار.
ودخلت الى أرض المطار لإستقبال الصيد الثمين ووقفت أسفل السلم أنظر في وجوه القادمين ولم تكن هبة سليم بينهم وداخلني قلق رهيب ونزل كل القادمين وكدت أصاب بالإحباط وفجأة وجدت ضابطا ليبيا يقود صفا من العساكر في طريقه الى الطائرة.. لفت نظري المشهد فاستوقفته وسألته: فيه إيه؟ فأجابني بأن هناك راكبة مصرية تقول انها فقدت خاتم سوليتير ثمنه مليون دولار ولن تغادر الطائرة دون استرداده.. وأسرعت بالصعود الى الطائرة سابقا الضابط الليبي وعساكره وكانت فرحتي عارمة عندما دخلت من باب الطائرة فوجدت هبة سليم بشحمها ولحمها وعرفت فيما بعد أنها دخلت حمام الطائرة وأغلقت على نفسها الباب قبل هبوط الطائرة وظلت في الحمام تتسمع الحركة الى ان تأكدت ان الطائرة أصبحت خالية من الركاب تماما فخرجت وادعت ضياع خاتمها الثمين وذهبت لتبلغ قائد الطائرة، وكانت حركة ذكية منها وأظن انها من ترتيب الموساد، لأن النتيجة ستكون تحرير محضر بالواقعة وهو ما يتطلب تدخل الأمن الليبي وتدخله يعني ان تفلت من المخابرات المصرية إن كان هناك كمين في انتظارها بأرض المطار.
احتضنتها وسلمت عليها بحرارة وكان الجو باردا وترتدي ملابس ثقيلة وتلف عنقها بكوفية ثمينة لا أعرف لماذا تخيلت في تلك اللحظة انها حبل المشنقة الذي سيلتف حول رقبتها، ولما رأتني اطمأنت واصطحبتها الى صالة كبار الزوار وقررت ان استمر في الكلام بلا توقف حتى لا تسألني عن اي شيء وحتى تنتهي المهمة بسلام.
وجلسنا في الصالة وطلبت لها كميات من المشروبات وانا مستمر في الحديث، وقبل الدخول الى الصالة أصدرت تعليمات للبحيري بأن يقوم بتنفيذ مهمة صعبة جدا وهي ان يسحب طائرة مصر للطيران الرابضة في المطار دون تشغيل محركاتها وفي سرية ودون صوت، ويضعها ملاصقة تماما لباب صغير موصول بقاعة كبار الزوار.
كانت الطائرة جاهزة للإقلاع وعليها ركابها وجرى إعداد ركن خاص مقفول على متنها به ضباط للمخابرات حتى اذا صعدت هبة سليم يغلق هذا الركن فلا يفتح الا في مطار القاهرة.. وعطلنا الطائرة لحين صعود الهدف وكان من بين الحلول المطروحة للتعطيل إفساد إحدى عجلات الطائرة حتى يستغرق إصلاحها وقتا دون ان تثير الشبهات لعدم إقلاعها في موعدها.
ودخل علينا فردان مفتولا العضلات جلسا في ركن من القاعة وراحا يتصفحان الجرائد، كنت أعرف انهما من المخابرات المصرية.. وكانت كلمة السر ان يدخل ضابط تبعنا يمثل دور مدير الجوازات في المطار قلت له في عتاب: الأخت مصرية وباسبورها تأخر عندكم.. من فضلك تخلصونا شوية.
كان دخول هذا الضابط معناه حسب الخطة الموضوعة ان كل شيء تمام والطائرة جاهزة بجانب الباب.. عندها استأذنت منها في دقائق لأذهب لإنهاء الإجراءات بنفسي وما ان فتحت باب القاعة حتى أسرع اليها الحارسان مفتولا العضلات ووضعا الكلابش في يديها وفوقه كوفية رأسها الثمينة حتى لا تلفت الأنظار..
وأحست هبة بالخطر فصرخت بكل قوتها باسمي فعاجلها أحدهما بضربة محسوبة في بطنها ترنحت بعدها وجراها الى الباب، وحاولت التشبث بالأرض وصرخت من جديد تستغيث بي، فعاجلها الآخر بضربة أشد أفقدتها توازنها، وسحباها الى الطائرة في ثوان معدودة وتم إغلاق الباب ورفع السلم في غمضة عين وأقلعت الطائرة. ولما تأكدت من نجاح الخطة وتابعت عيناي الطائرة في الجو استبدت بي نشوة الانتصار وأخذت أضرب برجلي في الأرض فرحا لأنني انتصرت على الموساد بأكمله وقمت بمهمة وطنية عظيمة. وفوجئت بأشخاص لا أعرفهم يرفعونني على الأعناق ويحملونني في الهواء، وبعضهم كان يبكي من الفرح ويحتضنني في تقدير بالغ'.